نظّم الإسرائيليون خطابَهم للغرب ولبقيةِ شعوب العالم من خلال برامج مدروسة من الدعاية السياسيّة (الهسبراه). في المقابل، لم يكن لدى الفلسطينيّين إلا مجموعة متنوعة من التجارب التي لم تتراكم ضمن خطابٍ مدروسٍ ومُوَجّه.
في الستينيّات والسبعينيّات، استفاد الفلسطينيون من الخطاب اليساريّ الأُمميّ في تعبئة الرأي العام، بل وتجنيد المتطوّعين من الحركات اليساريّة العالميّة المختلفة. لاحقاً برز خطابُ إدوارد سعيد، الذي قام على مبدأ إحراج الغرب، وإثبات ازدواجية معاييره وخطابه عن حقوق الإنسان فيما يتعلّق بحقوق الفلسطينيّين.
وفي السنوات الماضية، ظهرت حركاتٌ متنوعة أعادت تقديم القضية الفلسطينيّة للجمهور الغربيّ، منها حركاتُ المقاطعة، ومجموعات حقوقيّة مختلفة، والتي ركّزت على فضح انتهاكاتٍ حقوق الإنسان التي تمارسها دولة الاحتلال، وتعارضها مع القانون الدولي. كانت هذه الخطابات- رغم حذرها- تواجه باستمرار ضغطاً صهونيّاً عنيفاً يتّهمها بمعاداة السامية، وهو ما أدّى إلى حظر بعضها في البلدان الأوروبيّة، وتخويف الرأي العام منها.
في المقابل، يبدو أنَّ الأحداث الأخيرة قد أبرزت خطاباً إعلاميّاً بسقف أعلى، وأكثر جرأة في تسمية الأشياء بمسمّياتها، خطاباً يُركّز على الوضوح أكثر من الحذر. حمل جانباً من هذا الخطاب الشّاب الفلسطينيّ محمد نبيل الكرد، ابن حي الشيخ جرّاح والمُهدّد بالتهجير من منزله لصالح جمعيات استيطانيّة.
في مقابلاته مع وسائل الإعلام الغربيّة، وعلى عكس السائد لدى كثير من المتحدثين الفلسطينيين، يُسمّي الكرد الوجودَ الإسرائيلي في مناطق الـ48 بالاحتلال، ويقول بصراحةٍ بأنّ هذا النظام إرهابي ولا يمكن التعايش معه، وأنّه يمارس -إضافة إلى سياسة “الفصل العنصري”، التي تحوّلت إلى نغمةٍ أثيرة لدى المدافعين عن القضية الفلسطينيّة- سياسةَ تهجيرٍ قسريّ وتطهيرٍ عرقيّ وإحلال كولونياليّ استيطانيّ.
يستثمرُ هذا الخطاب البداهات السياسيّة التي يعرفها كلّ فلسطيني، ويُتقن استراتيجية المواجهة الإعلاميّة، فينتقلُ من موقع الدفاع إلى الهجوم، ويتفادى بذلك المتاهات الخطابيّة التي تُحوّل القضايا العادلة الكبرى إلى مجموعة مشتّتة من القضايا التفصيليّة والقانونيّة الجزئيّة.
لم يكن الكرد بطبيعة الحال أوّل من قدّم مثل هذا الخطاب، فهو خطابٌ سكن ذاكرةَ الفلسطينيين مع غسان كنفاني، وغيره من كتّاب حركة التحرّر الوطني. وبينما اعتقدت العديد من مؤسسات الدفاع عن الفلسطينيين أنّ تقديم خطابٍ دبلوماسيّ، يتفادى الخطوط الحمراء، ويلتزم بالتعريفات القانونيّة المتفق عليها، أقدرُ على مخاطبة الغرب والتأثير في سياساته، يرى البعض أنّ هذا الخطاب – بسقفِه الأعلى ووضوحه – هو الأكثر فعالية في مخاطبة الجمهور الغربيّ والعالميّ.
في هذا الحوار، نتحدث مع الكرد عن استراتيجيات هذا الخطاب المتصاعد، ومكمن فعاليّته، وآليات تطويره.
بدءاً من أحداث الشيخ جرّاح إلى معركة سيف القدس، حظيت القضية الفلسطينيّة بتضامنٍ عالميّ واسع، وشهدت العواصم الأوروبيّة تظاهراتٍ غير مسبوقة رفضاً للانتهاكات الإسرائيليّة. طوال تاريخ القضية الفلسطينيّة، كانت هناك أصواتٌ غربيّة معارضة لـ”إسرائيل”، ولكنّ هذه الأصوات باتت أكثر تأثيراً وانتشاراً من ذي قبل. ما أسباب ذلك برأيك؟
باعتقادي أنّ هناك الكثير من الأسباب التي رفعت سقفَ الخطاب الفلسطينيّ الجديد، وموجة المناصرة التي ظهرتْ في الأشهر القليلة الماضية ما هي إلا استمرارٌ لعملٍ تراكميٍّ قام به حقوقيون وحراكاتٌ ومؤسسات مختلفة على مرّ عقودٍ من الزمن.
هذه المرّة استطاع الفلسطينيُّ اختراقَ العوائق وتكميم الأفواه الذي تُمَارِسُه شركات الصحافة في العالم الغربيّ من خلال استخدامه الحدق والمسيّس لوسائل التواصل الاجتماعيّ، ففرضَ عليها الاستجابةَ والحديث عمّا شَغَلَ مواقع التواصل بشكلٍ ساحق. كان هناك العديد من المشاهير، الأميركيين مثلاً، الذين تحدّثوا من خلال مواقع التواصل عن القضية الفلسطينيّة وأدانوا الاستعمار. كذلك ظهرت أصواتٌ سياسيّة في الكونغرس (بغض النظر عن خطابها) تتجرأ، ولأول مرة، في انتقاد السياساتِ الإسرائيليّة، ورأينا مكانة “إسرائيل” تسقط إلى الهاوية في استطلاعات الرأي العام في أميركا وأوروبا.
ولا يُمكِنُني أن أنسى: مظاهرات جورج فلويد في صيف 2020، إذ كانت – قبل أن تستولي عليها الحكومةُ الأميركيّة ونخبة من الرأسماليين السود- قد جهّزت الشارعَ العالميّ للخطاب الفلسطينيّ الجديد. لم تطالب تلك المظاهرات بإصلاحٍ في أنظمة الأمن والعدالة الأميركيّة، بل بإلغائها كليّاً: إلغاء السجون وإلغاء الشرطة. هذا الخطاب الراديكالي ليس حديثاً، لكنّه لأولِ مرةٍ يتصدّرُ الصحفَ ويتربّع في الشاشات، مما جعل التربة خصبةً لتلقي مطالب كمطلب تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.
حين نتحدث اليوم عن دولة الاحتلال باللغة الإنجليزيّة، ولا أشمل الجميع، لا نحصر حديثنا عن “انتهاكات” حقوق الفلسطينيّين والفلسطينيات والمعاملة القاسية، بل تمتد تصريحاتُنا لتشملَ دحضَ شرعية الاحتلال وشرعية مؤسساته الرسمية، والحديث عن جميع جغرافية دولة الاحتلال كمنظومة استعمارية احلاليّة. من الأمثلة على ذلك حالة الشيخ جرّاح، لم نكتفِ بالقول إنّ هناك ادعاءات كاذبة من قبل مستوطنين وإنّ هناك بعض القوانين العنصريّة ضدّ الفلسطينيّين، بل قلنا أيضاً إنّ كلَّ النظام القضائيّ الإسرائيليّ هو استعماريّ بالضرورة، ومبنيٌ من قبل المستوطنين لخدمتهم، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يُنصِفَ الفلسطينيّ، وليس للقُضاة الإسرائيليين أي سُلطةٍ شرعيّة للبت في قَدَري كفلسطينيّ يعيش في القدس المحتلة.
يُمكنني القول إنّ الفلسطينيّ اليوم استطاع تخطّي العقبات البيروقراطيّة التي تفرِضُها وسائلُ الإعلام الرئيسة في الغرب، من التعقيدات التي تُمَوّه موازينَ القوى الواضحة وتجعل صناعةَ الرأي العام العالميّ حول القضية الفلسطينيّة أكثر تعقيداً. كنتيجة، أصبح “الوضع في فلسطين” بسيطاً وسهلاً، فلا يجب على المتلقي أن يكون خبيراً في السياسة أو الجغرافيا أو التاريخ لفهم جوهر الاستعمار الاستيطانيّ في فلسطين ومظاهره.
بالإضافة إلى ذلك، كان الخطاب الفلسطينيُّ تاريخيّاً خطاباً يؤدي دوراً محدداً ويتوجه بالحديث لجمهور معيّن، وهو صانعي القرار في الحكومات الغربيّة والإسرائيليين المتعاطفين معهم. أمّا اليوم، فالخطاب هو ترجمة لكلمات وأصوات ووجهات نظر الشارع الفلسطينيّ دون الاستماتة لاستدرار العطف أو القبول أو “الاحترام” من الجمهور الغربيّ.
هناك من يرى أنّه لا فائدة من مخاطبة الغرب عبر إعلامه، ولا ضرورة لـ”إقناعه” بشيء أصلاً، ما رأيك بهذه المقولة؟ وهل يمكن تحديد ملامح لتمييز القنوات الإعلاميّة الغربيّة عن بعضها؟ بمعنى بماذا يختلف الإعلام الأوروبيّ عن الأميركيّ؟ وهل هناك تمايزات داخل كلّ واحدٍ منهما على حدة؟
هناك اعتقادٌ عامّ أنَّ الغرب مكوّن من الإنسان الأبيض فقط. لكنَّ الغربَ مرّكبٌ أكثر من ذلك، وفيه مجموعاتُ أعراقٍ من الناس تُحارب الفاشية والاستعباد والاستعمار في سياقاتها المختلفة، والتي تتماهى أحياناً مع النضال الفلسطينيّ للتحرّر. يجب علينا أن نعي أننا حين نخاطب الغربَ فنحن نخاطبُ فئات من المقموعين مثلنا والذين يناضلون ضدَّ الظلم أيضاً. لذا نحن نخاطب الشعوب لا الحكومات للتحرّك ضدّ دولها الفاشية والمتواطئة مع الاحتلال الإسرائيلي.
وجبَ التنويه إلى أنَّ المخاطبة لا تعني الاستجداء بالضرورة، فأحياناً المخاطبة هي اشتباكٌ مع صانعي القرار والدبلوماسيين وغيرهم من “المهذبين شكلاً” رغم أن أيديهم ملطخة بدمائنا. يجب تحطيم هذا السقف الزجاجي ومواجهتهم بشكلٍ صريحٍ لتوّرطهم المباشر في تهجيرنا ودورهم في الحفاظ على ديمومة الاستعمار واقتصاده. والاشتباك لا يستدعي أبداً التهذيب أو “الدبلوماسية”، بل الذم والفضح. لا يمكننا التماشي مع الكاذب، أو “بوس الكلب من تمه”، فهذه الاستراتيجية أثبتت على مرّ الزمن أنّها فاشلة.
يمكننا الافتراض أنَّ الغالبية العظمى من القنوات التلفزيونيّة المشهورة، إن كانت أوروبيّة أو أميركيّة هي ليست فقط منحازة للسردية الصهيونيّة بل ومعادية بشكل فعّال للحقيقة تحت ما يُسمّى بـ”الحيادية”. مقابلة لفلسطينيّ أو فلسطينيّة على CNN لن تُحرِّرَ فلسطين ولن تغيّر هيكلية القناة ذاتها. لكن اختراق هذا الفلسطينيّ لصالات المواطن العادي هي الهدف المرجو.
يجب علينا أن نعي ما نريد قوله، بغض النظر عن السؤال المطروح، وفرض أجندتنا على هذه اللقاءات وعدم الانسياق وراء مناورات تجعلنا “نُبرِّرُ” أنفسنا ومقاومتنا، فالهدف من هذه اللقاءات في غالبية الأحيان هو وضع الفلسطينيّ في وضعية الدفاع. مع ذلك يجب علينا التأكيد أنَّ الخطَّ الأحمر لنا هو أي حوار يُمَوضِعُنا في محل “نقاش”، وأنْ نكونَ على قناعة أن الحقائق لا تُناقَش.
امّا بالنسبة للفروقات بين المحطات الأوروبيّة والأميركيّة فأظنّ أنّها متمحورة حول الجمهور الذي نخاطبه والدور الذي يمكنُهُ القيام به. بمعنى أننا حين نخاطب الأميركيّ فنحن نخاطبه حول دور حكومته في الاستعمار وفي دعم المُستعمِر وبالتالي نعوّل على أولئك الراغبين والراغبات بالتحرّك أن ينهضوا ضدَّ حكومتهم. تبعث الحكومة الأميركيّة مثلاً قرابة أربعة مليارات دولار سنويّاً لحكومة الكيان تحت مُسمّى “المعونة العسكريّة”، وهو مبلغ من الممكن أن يُستَثمر في خدمة الشعب الأميركيّ نفسه، الذي يعاني مثلاً من نظام رعاية صحيّة باهظ وغير متاح للجميع.
في المقابل، هناك أدوار ومطالب أخرى يمكن طلبها من المواطن الألماني. بكلمات أخرى، إن أرادت هذه الشعوب أن تناصرَ القضية الفلسطينيّة، فعليها أولاً مناصرة نفسها، فالأموال التي تذهب لتموّل الاضطهاد الإسرائيليّ قد تذهب لتموّل المجموعاتِ المفقرة والمقموعة.
من يتابع مقابلاتك الصحفيّة على شاشات القنوات الإخباريّة، يلاحظ أنّ محمد الكرد لا يستعمل الخطاب الدبلوماسيّ المعتاد، ولا يلتزم تماماً بما تمّ التعارف عليه بـ”الصوابية السياسيّة” Political Correctness . أنت مثلاً، تسمي “الوجود الإسرائيلي” في أراضي الـ48 بالاحتلال، في حين أنّ القانون الدولي يعترف بهذا الوجود ويراه شرعياً. هل كان هذا نتيجة استراتيجية مدروسة أم أنك ببساطة تسمي الأشياء بمسمياتها؟
ما نراه في فلسطين في الأشهر الأخيرة هو استرداد للسياسة إلى أيدي الشعب، ذلك الشعب الذي يوّاجه في الشارع، وهو الذي يفرضُ الواقع الآن، وهذا بعد أن انتزعنا ما يُسمّى بـ”التمثيل الرسميّ” من أفواه النُخب الفلسطينيّة والقيادات الرسميّة.
استطاع الشبابُ الفلسطينيّ اليوم أن يتخطّى ويفرض فلسطينيته على حدود فلسطين من البحر إلى النهر بالرغم من الجغرافيّات الاستعماريّة، الإسمنتية منها والوهميّة، وبالرغم من الشرذمة السياسيّة التي خلقتها هذه النُخب الفلسطينية أيضاً. وبالتزامن مع ذلك، استعدنا مصطلحاتنا والتسميات الحقيقية الواضحة والمباشرة، كما استعادَ البعض تسمية “مستوطن” لتُطلق على كلّ مستوطن، سواء في أراضي الـ48 أو أراضي الـ67.
ببساطة، نعم أنا اسمّي الأشياء بمسمياتها.
أمّا بالنسبة للقانون الدولي، فـ”إسرائيل” تستخدمه كمرجعٍ لتكميم الأفواه دون تطبيق أيٍّ من قوانينه، بل وتضرب بقوانينه عرض الحائط. علينا أن نعي أن القانون الدولي كأداة هي أداة محدودة ولا تُلبي طموحاتنا كشعب مُستَعمَر، وبالتالي يجب أن يكون تعويلنا عليها محدوداً، فنادراً ما طُبقّت قرارات المؤسسات الدوليّة على أرض الواقع، حتى لو أثبتت بعض حقوق الإنسان الفلسطيني نظريّاً.
كثيراً ما تمّ تصوير الفلسطينيين بوصفهم مجرد ضحايا للانتهاكات الإسرائيليّة. كيف ترى الفارقَ بين هذا الخطاب وبين الخطاب الذي قدّمتَه خلال الأحداث الماضية، وكيف تقيّم التفاعل الإعلاميّ والشعبيّ مع هذين النوعين من الخطاب؟
نعم نحن ضحايا، لكن الافتراض أنَّ الضحيةَ تفتقِرُ إلى الفاعلية والإرادة السياسيّة هو افتراض خاطئ، فالضحية قد تقاوم أيضاً وهي من تقود عمليات التغيير الثوريّة أصلاً. أعتقد أن ما جهّز الأرضية في العالم الغربيّ لفهم صورة الفلسطينيّ الضحية ضمناً (لكن المقاوم فعلاً) هو كل إرث نضال السود في الولايات المتحدة. فكثيراً ما رأينا مراهقين سود يُعدَمون في الشوارع من قبل عناصر الشرطة الأميركية، ثم كنا نرى الأسئلة التي تتوالى: “ماذا كانوا يعملون؟”، و”هل كانوا موضع ريبة؟” و”هل كانوا مسلّحين؟”، كل هذه الاسئلة العنصرية تُشرعن قتلهم؛ وحتى لو كانوا مسلحين أو عدائيين، فلا يحقّ للشرطي أن يقتلهم.
في نظري، اليوم المُجتمع الأسود في الولايات المتحدة يرفض تماماً هذه الأسئلة الجانبية التي تعمل على حرف النظر عن الجريمة الأصليّة والمجرم الأصليّ. والفلسطينيون اليوم، وفق هذا الخطاب المُتصاعد، لا يعملونَ على تصدير صورة الضحية “المثالية”، وهي الضحية التي تتلقى الصفعة ثمّ تُعطي الخدَ الآخر، بل نعمل على تقديم صورة الضحية الندّ والضحية الغاضبة والرافضة في الوعي العام العالميّ.
تبعاً للسؤال السابق، كثيراً ما قمتَ بتحويل الموقف الدفاعيّ الذي يفرضه عليك المحاورون إلى موقفٍ هجوميّ. فالفلسطيني دائماً في محل الاتهام، وعليه أن يثبت حسن نواياه ويدين أي ممارسات خاصة تقوم بها المقاومة العسكريّة مثلاً. في المقابل، كنت تقوم دوماً بتحويل السؤال وتوجيهه إلى السياسات الإسرائيلية. هل كان خطاب الفلسطيني “القوي” أكثر فعالية من خطاب الفلسطيني “الضحية”؟
عند تلّقي سؤال كهذا، عليك فضح النوايا الكامنة وراءه، لا الإجابة عليه بـ”الإدانة” أو “عدم الإدانة”. أعتقد أن مهمتنا في المرحلة القادمة ليست فقط شرعنة حقّ الفلسطيني في المقاومة بل أيضاً حقّ الفلسطينيّ في كره من يستبيح أرضه وينكّل به، وشرعنة هذه المشاعر الساخطة من كراهية وغضب.
ليس من المنطقي أو الصادق من أي فلسطينيّ – خاصةً الفلسطينيّ الذي ذاق جرائم الاستعمار على جسده – أن يخرج إلى المنابر العالميّة ويقول: “أنا لا أكره الإسرائيلي” ليستجدي عواطف الجمهور الغربي. ولا ضرورة لهذا الخطاب أصلاً.
عندما يُتوقع من الفلسطينيّ الإدلاء بمثل هذه التصريحات، يتم تجريده من إنسانيّته: وإنسانيّته لا تتمثّل بذكريات طفولتِهِ أو بتطلعاتِه إلى المستقبل فقط، بل تتمثّل بردود فعلهِ من غضبٍ ومقاومة وبُغض. عندما نقول إنّ الفلسطينيّ إنسان، فنحن لا نعني بذلك – فقط – أنّه يذهب إلى المدرسة مِثله مَثل كلّ الناس، بل نعني أيضاً أنّه يصفع صافِعَه مِثله مِثل كلّ الناس.
يواجه كلُّ من ينتقد السياساتِ الإسرائيليّة تهمةَ معاداة السامية. كيف تعاملت مع الردود الجاهزة التي يواجهك بها المحاورون على قنوات الأخبار الغربيّة ومنها هذا الردّ المتعلق بمعاداة السامية؟ <br>
من المهم أن نفهم لماذا نُسأل دوماً عن معاداة الساميّة. إنَّ الهدف ليس استقصاء موقفنا من معاداة السامية، إنما “حشرنا في زاوية” الدفاع والتي تُجرّم بالضرورة أي رأي أو نقدٍ نُدلي به. فلا يهمّ ما نقول، حتى وإن كان موقفاً غير راديكالي البتة، فنحن نواجه فوراً باتهامنا باللاسامية”. في فن المناظرة، هذا يُسمّى “الرنجة الحمراء” (حرفياً: سمكة ذات رائحة قوّية توضع في طريق كلب الصيد لإلهائه عن مطاردة الأرانب)، أي حرف النظر عن القضية الجوهريّة وتركيز المُنَاظرة على محاور جانبيّة، لا تساهم في النقاش، وإنما في التغطية عن الوقائع وإرباك المُحاوَر.
من الممكن الدخول في النقاش حول كوننا غير معادين للسامية، لكننا بذلك ننصاع وراء هذه المحاولات، ونقع في الفخ الذي بناه اللوبي الصهيونيّ على مرّ السنوات، وهو إلصاق تُهمة معاداة السامية بكل من يجرؤ على نقد “إسرائيل”، أو التشكيك بشرعية الاحتلال. وللأسف، رأينا الكثيرين ممن انجرّوا وراء هذه المحاولات وابتلعوا الطُعمَ، وأضاعوا بالتالي فرصةَ إيصال رسالتهم للناس وتصرفوا كالـ”جُناة” الذين يدافعون عن نفسهم في قاعات المحكمة.
المفارقة أنّ هذه الأسئلة لا تُسأل أبداً للقامع، فلا نرى صهيونيّاً محشوراً في زاوية الإجابة عن سؤال أو اتهامٍ له بأنّه يكره المسلمين مثلاً. وهذه دلالة على أنَّ موازين القوى العالميّة، حتى في حوارٍ متلفز، دائماً تصطف لتنصرَ القامعَ وتُدينُ المقموع.
طوّر الإسرائيليون برنامجاً مخصّصاً للدعاية السياسية (الهسبراه)، وهو برنامج يهدف إلى وضع استراتيجيات جاهزة للدفاع عن “إسرائيل” وسياساتها ضدّ كل المنتقدين. لو أردت صياغة أهم نقاط يجب أن ينتبه إليها المدافعون عن القضية الفلسطينية في خطابهم مع الغرب، ماذا ستكون؟ بمعنى هناك أسئلة متكررة يطرحها المحاورون الأجانب، برأيك كيف يجب الردّ عليها؟ مثلاً: السؤال عن المقاومة في غزة و”قتلها للمدنيين الإسرائيليين”؛ الادعاء بأن حماس هي المسؤولة عن الوضع المتردي في غزة؛ الحديث عن قمع حكومة السلطة وحكومة “حماس” للناس في الضفة والقطاع، وغير ذلك من الادعاءات.
تستندُ جميع هذه الادعاءات إلى أمرٍ واحد: أنّها ضحلة وسهلة التكرار، كأي بروباغندا. وكما قلنا سابقاً، الهدف منها ليس معرفة رأي الفلسطينيّ المحاوَر بل وضعه في موقعٍ دفاعيّ. في رأيي، فضح نوايا هذا النمط من الأسئلة على لقاءٍ تلفزيونيّ أقصاه خمس دقائق أكثر فاعليةً وفائدةً للمشاهِد من الخوض في معارك أيديولوجية تحتاج إلى وقتٍ أكثر، وهو ما لن يُعطى لك في العادة.
كثيراً ما يتحدث الصهاينة في الإعلام عن “الطرفين” وعن “حزنهم” على أرواح “المدنيين” الفلسطينيين، ويسألون المشاهد الغربيّ أو الأجنبيّ: “ماذا ستفعل لو كنت مكاننا”؟، و”حماس تستخدم دروعاً بشريّة”، طامسين حقيقةَ أنَّ الأصابع التي تضغط على الزناد وتقتل المدنيين هي أصابع إسرائيلية، وهي من يتحمل مسؤولية الجريمة بدون علاقة مع أي معطيات أخرى.
نعم نحن نعرف أنَّ السُلطة الفلسطينيّة تقمع الناس، لكن من يتحمل مسؤولية هذا الواقع أصلاً هو الكيان الصهيونيّ، فلا وجود لقمع السلطة بدون وجود الاستعمار. أعتقد أنَّه يجب علينا صكُّ استراتيجيات جديدة مضادّة للـ”هسبراه” الإسرائيليّة، ويجب أن تكون هذه الاستراتيجيات أيضاً سهلة التكرار والفهم من قبل إنسانٍ عادي لا علاقة له بموازين القوى القائمة بأيّ شكل من الأشكال، ويجب علينا خلق وعي عام يُدرك أن الادّعاء الموّجه في الدعاية الإسرائيلية هو ادعاء “هسبراه”، وليست له شرعية بالضرورة، بل هو نتاج خطط إستراتيجية حكوميّة وتمويلٍ ضخم يستهدف وعي الجمهور الغربيّ دون الاكتراث بالإجابة عن أسئلته.
مثال على ذلك، قبل فترة وجيزة شاركت في حوارية إلكترونيّة وسُئلت عن ردّي على الادعاء أن “الضفة الغربية وغزة كانتا تابعتين للأردن ومصر وكانتا أراضٍ خالية”. وقع بعض زملائي في الحوارية في الفخ وباشروا بالرد، فبرَّروا واقتبسوا المؤرخين وجلبوا الأدلة، لكنني كنت مضطراً أن استوقفهم. قلت إنه يمكننا الخوض وإثبات عدم صحة هذه الادعاءات عن “الأراضي الخالية” و”كيف تم اختراع الفلسطينيين بالستينيات” وقصة “الدروع البشرية”، وغير ذلك، لكن مجرّد السؤال حول هذه الادعاءات هو سؤال صادم، سؤال غير مقبول، يدين سائله لا من لا يستطيع الاجابة عليه.
علينا تسميته باسمه: إنه سؤال مخادع ومتآمر وكاذب، لا يستدعي الشرح والتبرير، وعلينا التأكيد على أنه إلهاء عن القضية الأساسية، وهي قضية تهجيرنا من بيوتنا وأرضنا. حين نسمّي هذه الأسئلة ونصفها بما هي عليه، بل ونستهزأ بها وبسخافتها، يصبح لدى المشاهد فرصة أن يتعلّم أن هذه الأسئلة غير جديرة بالإجابة أصلاً.